أيوب الزياني المديرالعام
عدد المساهمات : 960 نقاط : 2750 تاريخ التسجيل : 18/11/2009 الموقع : المملكة الأدبية
| موضوع: أبو نصر" الفارابي الثلاثاء 9 نوفمبر - 14:43 | |
| أبو نصر" الفارابي: أعظم فلاسفة الإسلام قبل ابن سينا، وهو تركي المنتسب، واسمه محمد بن محمد بن طرخان أبو نصر الفارابي. ولد في واسج وهي محلة صغيرة منيعة في إقليم فاراب (أطرار) فيما وراء النهر. ويقال إن أباه كان قائداً، وانتقل هو إلى بغداد يدرس على الطبيب النصراني يوحنا بن حيلان، وتعلم صحبة أبي بشر متى النصراني النسطوري الذي اشتهر بترجمته للكتب اليونانية؛ ثم التحق ببلاط سيف الدولة الحمداني صاحب حلب، وعاش في كنفه عيشة المتصوفة، واصطحبه هذا الأمير في فتحه لمدينة دمشق، وتوفي أبو نصر بها عام (950م) بالغاً من العمر ثمانين عاماً. واشتهر أبو نصر بصفة خاصة بشروحه على مؤلفات أرسطو، وقد أكسبته هذه الشروح لقب "المعلم الثاني"، وأرسطو طاليس هو المعلم الأول؛ فشرح كتب "المقولات" و"العبارة" و"القياس" و"البرهان" و"الجدل" و"المغالطة" و"الخطابة" و"الشعر" أي أنه شرح جميع الكتب التي يتألف منها المنطق بأوسع معانيه. وقدم لهذه المجموعة المنطقية بشرح لكتاب "الإيساغوجي" لفرفوريوس. أما في الأخلاق فقد شرح كتاب أرسطو في "الأخلاق إلى نيقرماخوس" وشرح في علم النفس "كتاب النفس" للإسكندر الأفروديسي، وشرح في باب العلم "طبيعيات أرسطو" وكتابيه في "الآثار العلوية" و"السماء والعالم" وكتاب "المجسطي" لبطليموس. ولم تقتصر مؤلفات الفارابي على شروح كتب اليونان بل له كثير من التصانيف الخاصة، فله في علم النفس والإلهيات رسائل في "العقل والمعقول" و"النفس" و"قوي النفس" و"الواحد والوحدة" و"الجوهر" و"الزمان" و"الخلاء" و"المكان" و"المقاييس". وقد دعا الفارابي إلى رأي يبدو اليوم عجيباً شاذاً تبرره نزعة فلاسفة المشرق إلى توحيد المذاهب المختلفة، ذلك هو أن الفلسفة القديمة يجب أن تكون واحدة أو على الأقل ينبغي ألا يكون هناك تناقض بين قطبيها الكبيرين اللذين يمثلانها وهما أرسطو وأفلاطون، فمذهباهما يجب ألا يكونا سوى التعبير عن حقيقة واحدة بأسلوبين مختلفين. وعلى هذا يبدو عظماء الفلاسفة من القدماء كأنهم أنبياء حقيقيون، يلقبون بالأئمة كما يلقب علماء الدين، وتعاليمهم نوع من الوحي يجب أن تبرأ من التناقض والخطأ. وكتب الفارابي في هذا المعنى عدة رسائل: "كتاب الجميع بين رأيي الحكيمين أفلاطون الإلهي وأرسطو طاليس" و"أغراض أفلاطون وأرسطو" و"كتاب التوسط بين أرسطوطاليس وجالينوس". ويجب أن نلاحظ أن فيلسوفنا كان يعتقد بصحة نسبة كتاب "أثولوجيا" إلى أرسطوطاليس، وهو كتاب منحول، في الأفلاطونية الجديدة، كتب على نهج تاسوعات أفلوطين، وفد أدى هذا الخطأ إلى أن يكوّن أبو نصر فكرة خاطئة إلى حد بعيد عن مذهب المشائين. وقد نشر ديتريصي Dieterici تسع رسائل صغيرة للفارابي أهمها "رسالة فصوص الحكم" وهي تشتمل على أنظار كثيرة كتبت في إيجاز، وكانت كثيرة الذيوع عند المشارقة، ولها شرح كتبه إسماعيل الحسيني الفارابي أحد مصنفي القرن الخامس عشر الميلادي، وقد طبع هذا الشرح بالمطبعة العامرة عام 1291هـ وجعله هورتن M.Horten موضوعاً لدراسته. ونشر ديتريصي للفارابي غير تلك الرسائل "رسالة" آراء أهل المدينة الفاضلة، وهو مصنف يقع في أربعة وثلاثين فصلاً تأثر فيه فيلسوفنا الإسلامي بأفلاطون. بين فيه كيف يتصور نظام المدينة الفاضلة: فهذه المدينة يتولى أمرها الحكماء، وغايتها محاكاة الكمال الذي في المدينة السماوية، وإعداد أهلها للحصول على السعادة الأخروية. وليس هذه النظري نفع عملي ولكن لها بعض الأهمية في موضوع الإلهيات. وكان غرض الفارابي، شأن غيره من فلاسفة مدرسته، أن يحيط بجميع العلوم. ويظهر أنه كان رياضياً بارعاً وطبيباً لا بأس به. وكتب كذلك في العلوم الخفية، كما كان إلى جانب هذا موسيقياً متفنناً لدين له بأهم رسالة عن نظرية الموسيقا الشرقية، وكان يوقع على المزهر ويؤلف الألحان. وقد أثارت عبقريته إعجاب سيف الدولة، ولا يزال دراويش المولوية يحفظون أغاني قديمة تنسب إليه. ومذهب أبي نصر هو مذهب المدرسة التي عرفت في الإسلام بـ"الفلاسفة" أي مذهب الأفلاطونية الجديدة في صورته الإسلامية. وهذا المذهب كان الكندي قد بدأ يعبده من قبل، ووصل به ابن سينا في مصنفاته إلى أكمل صوره من بعد. ومن المرجح أن الفارابي قد خالف الكندي وابن سينا في بعض المسائل ولكن من العسير أن نحددها. ويجب أن نقف موقف التحفظ إن لم يكن موقف الشك عند بسط تفاصيل مذهبه. فمؤلفاته لم تصل إلينا جميعها وإنما وصل إلينا جانب ضئيل منها. ثم إن أسلوبه غامض بعض الشيء، فكثير من رسائله التي بين أيدينا عبارة عن نبذ مقتضبة غاية الاقتضاب يتلو بعضها بعضاً في غير ترتيب. زد على ذلك أننا لا نستطيع أن نأمن التناقض في مصنفات كثيرة يظهر فيها مرة بعد أخرى أثر أرسطو وأفلاطون وأفلوطين. بل لا يمكن أن تخلو من بعض التناقض أيضاً تلك الفكرة الأساسية في مذهبه التي تنحو إلى التوفيق بين أرسطو وأفلاطون من جهة، وبين هذه الفلسفة الناجمة عن التوفيق والعقيدة الإسلامية من جهة أخرى. وقد اعتقد ده بور M.T.J. de Boer أنه يستطيع أن يدل على مواطن الخلاف البين بين أبي نصر وغيره من أعضاء مدرسة "الفلاسفة" وخاصة الرازي المشهور الذي عاصره. وهذا الخلاف على ما يرى ده بور ينحصر في أن مذهب أبي نصر يعتمد على القياس والنظر ويقوم بأكمله على المنطق الخالص، بينما تعتمد فلسفة الرازي على التجربة والاستقراء وتتجه دائماً نحو الأمور المادية المشخصة، ولست أعتقد أن هناك حقيقة مذهبين مختلفين، لأن مذهبيهما شقان أو مظهران لمذهب واحد أعم منهما: فقد تناول الرازي الجوانب المادية المشخصة من المذهب لأنه كان طبيباً وطبيعياً مشهوراً، بينما تناول الفارابي الجوانب المجردة منه لأنه كان أميل إلى المنطق والرياضيات والأنظار الصوفية. ونجد هذين الشقين ملتئمين في فلسفة ابن سينا. على أنني بينت فرقاً بين أبي نصر وابن سينا في موقف التصوف من مذهبيهما. فالتصوف لا يظهر في مذهب ابن سينا إلا في آخره كتاج يتوجه، وهو جزء منفصل تمام الانفصال عما عداه من أجزاء مذهبه، وقد عالجه بمهارة فاتقة على أنه فصل من فصول فلسفته التي كان عليه أن ينشطها من جهة موضوعية بحتة. والأمر على نقيض ذلك عند الفارابي. فالتصوف يتخلل جميع مذهبه، وعبارات المتصوفة شائعة تقريباً في كل أقواله، وكأنما التصوف عنده ليس نظرية من النظريات وإنما هو حالة ذاتية. وقد ساهمت هذه الحالة الذاتية في جعل مذهبه غامضاً بعض الشيء. ومن المعروف أن ابن سينا أكثر وضوحاً وأسد منهجاً واقوم نظاماً من الفارابي، وقد بلغت الفلسفة الإسلامية بمصنفاته إلى أكمل صورها؛ نلمس هذا التباين في وضوح الفكرة عند تعرضهما لمسألة هامة هي مسألة خلود كل نفس على انفرادهما. فالإنسان على الحقيقة هو النفس الناطقة أو "العقل" الذي يشرق عليه عالم الروح والمعاني أي "العقل الفعال" وذلك العقل هو ما يبقى من الإنسان بعد موته. ولكن هل يبقى متحداً بالعقل الفعال؟ أم يظل مستقلاً بذاته حافظاً لمشخصاته؟ كتب أبو نصر بعض فقرات على وجه يجعلنا نعتقد بأنه كان من أنصار الرأي الأول، ومع ذلك فلا سبيل إلى الشك في أنه كان يعتقد خلود كل نفس على انفرادها، فهناك في كتابه "المدينة الفاضلة" فقرة يبين فيها أن النفوس الخيرة تصل إلى المدينة السماوية، وأن كل واحدة منها تذوق من اللذة ما يعدل عدد النفوس كلها. وقد زعم ابن طفيل أيضاً - وكان لا يميل إلى أبي نصر على ما يظهر – أن فيلسوفنا كان متشككاً في خلود كل نفس على انفرادها (S.Munk، مقالة عن الفارابي في Dictionnaire des Sciences philosophiques) وهذا الاتهام يجب أن يعزى سره إلى بعض فقرات كتبها الفارابي على وجه ناقص غامض. وقد أشار ده بور أيضاً إلى فارق آخر بين الفارابي وغيره من فلاسفة مدرسته، وهو أن ابن سينا لم يجعل المادة صادرة عن الله كما جعلها الفارابي. ويقول هذا الكاتب إن الفارابي تصور المادة على أنها فائضة عن الله بتنقلها في أوساط روحية مختلفة. ولست أعتقد أن هذا الرأي صائب، ذلك لأن الفارابي في رسالته المسماة "مبادىء الموجودات" التي بقيت لنا ترجمتها العبرية بقلم موسى بن تبون (طبعة فيليبوفسكي في ليبسك 1849) يذكر سلسلة المبادىء على وجه يجعلها أشبه شيء بالفيض: إذ يفيض عن الله العقل الأول أو العلة الأولى، ويفيض عن هذه عقول الأفلاك على ترتيبها وآخرها العقل الفعال. ويتلو ذلك النفس الكلية ثم الصورة ثم المادة آخر الأمر. وتتمشى إلهيات ابن سينا مع هذا الترتيب تماماً. والمادة التي نتحدث عنها هنا هي جوهر العالم الذي يحمل إمكانه. فالعالم يبدأ وجوده من هذه المادة وليس يخرج مباشرة من العدم الصرف. والأفلاك السماوية التي تستمد حياتها من نفوسها إنما قد حركها المحرك الأول، وليس هذا المحرك هو الله نفسه ولكنه العقل الأول الصادر عنه. وحاول الفارابي التوفيق بين أرسطوطاليس وأفلاطون في مسألة قدم العالم. ففي رسالته المسماة "الجمع بين رأيي الحكيمين أفلاطون الإلهي وأرسطوطاليس" زعم أن أرسطو لم يعتقد بقدم العالم: فالخالق أبداع العالم دفعة واحدة في غير زمن، ثم حركه المحرك الأول فنشأ "الزمان" عن حركة الأفلاك. وبعبارة أخرى يكون الزمان متأخراً بالذات عن وجود العالم بالفعل. ومع هذا فإن فلاسفة هذه المدرسة قد ذهبوا إلى أن اللاتناهي من جهة الماضي أمر ممكن: فوفقاً لابن سينالا يمكن أن يوجد في آن واحد (بالفعل) عدد لا يتناهى، ولكنه يمكن أن يوجد عدد لا يتناهى إذا لم تكن أجزاؤه موجودة معاً بالفعل في آن واحد. فيمكن أن يقال إن الأفلاك السماوية قد تحركت حركات غير متناهية في عددها في الماضي. وعلى هذا فالزمان قديم. ولكن يجابه هذا الرأي مشكلة، هي أن نفوس الأشخاص الذين انقضت حياتهم لاتزال باقية بالفعل لأنها غير فانية، وعلى هذا يكون هناك عدد لا يتناهى من الأنفس موجود بالفعل في آن واحد. والفارابي في رسالته "المدينة الفاضلة" يتحدث مع ذلك عن النفوس في العالم الآخر كما لو كان عددها متناهياً. ولا يمكننا على وجه التحقيق أن نقول إن هؤلاء الفلاسفة لا يتناقضون أحياناً. وهم يشرحون بثقة متساوية مذاهب فلاسفة كثيراً ما تتعارض فيما بينها فيحدث عن ذلك بالضرورة بعض القلق وعدم التثبت في مذاهبهم الخاصة. | |
|