محتويات البحث
- الدواعى الشرعية: منهج الإسلام فى التعامل مع الحضارات والدعوة إلى الحوار
- الضرورات الواقعية المعاصرة
- أهداف الحوار الحضارى
- من هم أطراف الحوار الحضارى؟
- محتوى الحوار ومضامينه
- البرامج التنفيذية للحوار الحضارى العالمى
- متطلبات إسلامية للحوار
- تأهيل الخطاب الفكرى لمواجهة تحديات الحوار
- ارتباط حوار الداخل الإسلامى بالحوار مع الآخر
- آلية إسلامية للحوار
- المبادرة إلى الحوار و التصدى بصراحة لإشكالياته
- لجنة تحضيرية إسلامية للإعداد للحوار
يعيش العالم الآن فترة انتقال حضارى حافلة بالكثير من قوى التغيير والتفاعلات الثقافية.- وقد جاءت هذه المرحلة فى ختام قرية من الصراعات الفكرية والاقتصادية والصدامات العسكرية والاستراتيجية. كانت دماء وأرواح الكثير من البشر وقودا لها …
وفى هذه المرحلة تبرز الحاجة إلى الحوار كمطلب ضرورى يكتسب أهمية بالغة ، لتمهيد طريق التواصل و إرساء ودعم وتعزيز منهج التقارب والتعاون بين الحضارات المختلفة، ومساهمة فى البحث عن إيجاد الإطار الحضارى الذى يقوم على عناصر القوة المستمدة من خلاصة التجارب الحضارية للبشرية جمعاء.
الدواعى الشرعية والضرورات العملية للحوار:
تنطلق القناعة بضرورة وأهمية الحوار الحضارى من دواعى شرعية، ومن ضرورات واعتبارات عملية يفرضها الواقع العالمى المعاصر
(أ) الدواعى الشرعية (منهج الإسلام فى التعامل مع الحضارات والدعوة إلى الحوار)
يؤصل الإسلام منهج الدعوة إلى الحوار الحضارى ، واعتماد التواصل الإنسانى والتعايش والتفاعل بين الأمم والشعوب المختلفة على مجموعة من المبادئ من أبرزها ما يلى:
الحوار هو بالنسبة لنا كمسلمين فريضة واجبة وضرورة شرعية.
فنحن أصحاب دعوة ورسالة عالمية ، لا تخص جنسا ولا لونا، ولا عرقا، ولا بلدا معينا، والخطاب القرأنى الكريم يتوجه فى الكثير من آياته إلى البشر جميعا، مؤكدا على التعايش والإخاء الإنسانى مستهدفا خير وتقدم ونماء الإنسانية كلها.
ويصبح واجبا علينا حمل أمانة الدعوة إلى الله وتبليغ رسالته.-.- وتعريف العالم والإنسانية كلها بالإسلام ومبادئه، وقيمه، ومثله، ومقاصده السامية و تصحيح الكثير من التصورات، والانطباعات والمفاهيم السلبية الخاطئة التى راجت لدى العديد من الأوساط الدولية عن الإسلام و المسلمين، ولن يتحقق لنا ذلك إلا بالحوار والتواصل مع الآخرين.
هذا فضلا عن أن الدعوة إلى الحوار، وانتقاء بالأخر ومجادلته بالتى هى أحسن، هى دعوه قرآنية وتكليف شرعى قائم. قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا و بينكم، ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا، ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله (آل عمران: 64). ومن ثم علينا نحن أن نبادر إلى الدعوة إلى هذا الحوار، وان نكون أكثر حرصا عليه من غيرنا... وأن نحاور وندعو، ونتواصل بمنهج الإسلام القائم على الحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتى هى أحسن، والرفق واللين، وحسن العرض ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتى هى أحسن... (النحل: 125).
لقد أسس الإسلام منهجا متكاملا للتعامل بين الشعوب والحضارات المختلفة.. فقد أقر باختلاف الناس والأجناس... وقنن هذا الاختلاف، وربط المسلمين مع سائر البشر- على اختلاف أجناسهم وانتماءاتهم الحضارية برباط من الأخوة الإنسانية النابعة من وحدة الأصل البشرى... والزم المسلمين بالتعاون والتعايش والتعارف مع غيرهم، وإشاعة الخير مع الجميع وبين الجميع... بغض النظر عن الديانة أو الجنس أو اللون يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا (الحجرات: 13)، وقد اعترف الإسلام بواقع الديانات السابقة وعلاقته بها قائمة وقديمة، وجعل الإيمان برسل الله وأنبيائه وكتبه عنصرا هاما فى عقيدة المسلم، كما أرسى مبدأ حرية الاعتقاد: لا إكراه فى الدين كأساس للإخاء والتعايش الإنسانى ومن ناحية أخرى فقد قرر الإسلام بأن السلم ونبذ العدوان هو الأصل فى العلاقة بين الشعوب ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين (البقرة: 190).
(ب) الضرورات الواقعية والعملية
يقوي من دواعى الحوار ضرورات عملية وواقعية معاصرة نجمل بعضها فيما يلى:
. يدخل العالم مع بدء القرن الحادى والعشرين مرحلة من المتغيرات الجذرية والتطورات والتحولات الكبرى والسريعة، والثورة الهائلة فى وسائل الاتصال والإعلام، والمعلومات، وما تفرضه من إمكانيات غير مسبوقة للتواصل الثقافى و الفكرى و القيمى بين الحضارات المختلفة، وفى عالم الاتصال المفتوح وتدفق المعلومات، واختفاء الحواجز الثقافية تفرض هذه المعطيات الجديدة نفسها علينا- ولا يمكن الانعزال عنها أو الأحجام عن التعامل معها، والحوار حولها، والعمل المشترك على توظيفها فى خدمة الإنسانية ومواجهة و-- تداعياتها السلبية.
. من الواضح أن هذه النقلة الحضارية الراهنة تأتى فى أعقاب مرحلة شهدت أكثر الصراعات والصدامات دموية فى العالم.. وإذا ما علمنا أن هذه الصدامات كانت الأطراف الأساسية فيها تنتمى إلى نفس الحضارة فإنه يمكننا تصور مدى ضراوة هذه الصدامات إذا كانت بين أطراف تختلف فى انتماءاتها الحضارية.. وعليه فإن الدرس الذى يجب أن تعيه البشرية من هذه التجربة القاسية هو ضرورة الالتقاء حضاريا، والتعاون بين الشعوب على صالحها العام.
. ومن دواعى اللجوء إلى الحوار الحضارى أنه لا تزال بعض التيارات الفكرية فى العالم تفكر بمعايير عصر الصدام، وترى أن الصدام أمر حتمى.. وأن انتهاء حلقة من هذا الصدام لابد، وأن تتلوها حلقة أخرى تختلف فيها أطراف الصراع ومضامينه... ومن هذا ما نشاهده من بعض الآراء التى ترى فى الإسلام العدو المرشح للغرب بعد سقوط الشيوعية.
. وأخيرا يجب أن نعترف بأن ميزان القوى فى العصر الحالى قد مال لصالح الغرب.. ولهذا فهو يسعى إلى نشر ثقافته، ونمطه الحضارى على العالم بادعاء أنه السبيل لتحقيق حياة أفضل للبشرية من وجهة نظره.. ولهذا يلاحظ أن هناك تيارات تدعو إلى فرض نمط الحضارة الغربية باستخدام كافة وسائل الهيمنة الثقافية والاقتصادية، وهو ما ظهر فى مناسبات ومحافل دولية مختلفة (مثل: مؤتمر السكان بالقاهرة 1994 م، ومؤتمر المرأة فى بكين 1995 م).. ومن شأن هذه الدعوات أن تغذى مظاهر الصراع الحضارى بين البشر، وتدخله فى حلقات جديدة أكثر عنفا وضراوة.. ومن ناحية أخرى فإن هناك تيارات تدعو إلى التعايش بين الحضارات والتواصل الإيجابى بينها لإبراز العناصر التى تعزز تقدم البشرية، ويجب على جميع القوى المستنيرة فى العالم- ومن بينها نحن المسلمين- أن تدعم هذه التيارات التى تدعو إلى احترام مختلف الحضارات.
أهداف الحوار الحضارى
لعل فى الاعتبارات التى تبرز أهمية اللجوء إلى الحوار الحضارى إيحاء بما يجب أن تكون عليه أهداف هذا الحوار.. ويجب أن نعى أن هذه الأهداف يجب أن تلقى قبولا لدى مختلف الأطراف-.. وهذا لا يتنافى مع مفهوم الإسلام للتدافع بين البشر-..- بمعنى التنافس الحضارى مما بين الأمم.- وهو الذى يتيح لجميع الأطراف فرصة تقديم ما يعمل على خدمة البشرية جمعاء. ويكن أن نعطى إشارة موجزة إلى ما يلوح الأن من أهداف للحوار الحضارى العالمى-- والتى تتركز فى:
* التعريف بالإسلام وقيمه ومبادئه ومقاصده السامية على النحو السابق الإشارة إليه.
* تجنب الأطروحات التى تدفع الشعوب نحو صدامات جديدة تستخدم فيها شتى أساليب القوة وعدم احترام الإرث الحضارى للبشر.
* الاعتراف بالتعددية الحضارية وبأهميتها لتقدم البشرية-. وتكريس احترام الخصوصية الثقافية لمختلف الأمم.
* توجيه ما تأكله الحروب من طاقات بشرية ومادية إلى تحقيق مزيد من التقدم والرفاهية للبشرية جمعاء.
* تيسير التعاون بين أمم العالم وشعوبه و الذى سيكون أمرا محتما نتيجة د خول عصر ثورة المعلومات والاتصالات وما سيفرضه من أنماط ومعايير جديدة لحياة البشر وأنشطتهم.
* تحقيق الاستفادة المشتركة من الإنجازات الحضارية المختلفة
و السعى نحو العمل على إيجاد إطار حضارى عالمى يجمع فى تكوينه أكبر كم ممكن من عناصر التميز الحضارى التى تتمتع بها ثقافات الشعوب المختلفة-. إذ أنه من غير الجائز القبول بإهدار أى رصيد حضارى إيجابى ساهم فى ازدهار وتقدم البشرية فى أى مرحلة من مراحل التاريخ.
من هم أطراف الحوار الحضارى لا العالمى؟
إن تفعيل الحوار الحضارى العالمى مسئولية جميع الأطراف بالتساوى والتوازى… ولن يكون هذا الحوار هادفا دون مشاركة الجميع وحرصهم المخلص على إنجاحه وتفهم الأطروحات المتبادلة من خلاله، ولن تتحقق الغايات النبيلة والآمال الكبيرة من الحوار، والتى ترمى إلى تعزيز أواصر التفاهم والتقارب والتعاون بين الحضارات إذا انفردت به القوى السياسية والاقتصادية وحدها دون بقية القوى الحضارية الأخرى.
وعلى ذلك يمكن تصنيف الأطراف المشاركة فى الحوار بأكثر من معيار.. وذلك على النحو التالى:
* المعيار الثقافى:
وهو المعيار الذى يتعامل مع مختلف الحضارات، والتى يجب أن يشارك ممثلون لها جميعا كأطراف متساوية فى الحوار الحضارى.
* المعيار الإنمائى:
من المعروف أن هناك تفاوتا كبيرا فى المستوى الإنمائى الذى حقتته مختلف شعوب العالم.. وهده الشعوب يتساوى حقها ومسئوليتها فى إحداث الحوار الحضارى العالمى وفى إنجاحه-- ووفق هذا المعيار يتعين أن يشارك فى الحوار ممثلون عن: الدول الصناعية المتقدمة والدول النامية (وهى إجمالا الدول التى فى سبيلها إلى تحقيق مستويات متقدمة من النمو) الدول الأقل نموا.
* المعيار المؤسسى:
من الضرورى لإنجاح الحوار الحضارى العالمى أن تساهم فيه جميع الدوائر والمؤسسات التى تنظم انتماءات البشر على مختلف الأصعدة ولذلك فإن المؤسسات التى يمكن اعتبارها أطرافا فى هذا الحوار يمكن الإشارة إليها على النحو التالى:
- التنظيمات الدولية وهى هيئة الأمم المتحدة، والتنظيمات التابعة لها.. وفى مقدمتها منظمة اليونسكو. التى تتمتع بما يؤهلها لدور مميز فى تنظيم الحوار الحضارى والدعوة إليه.
- التجمعات الإقليمية-- مثل: منظمة المؤتمر الإسلامى، وجامعة الدول العربية، ومجلس التعاون لدول الخليج العربية، منظمة الدول الأمريكية، والاتحاد الأوروبى، ومنظمة دول جنوب شرق أسيا ومنظمة الوحدة الإفريقية، ومنظمة دول عدم الانحياز-. وغيرها من المنظمات الإقليمية والمؤسسات المتخصصة التابعة لها.
- المنظمات والمؤسسات التطوعية القطرية والدولية.
- الجامعات ومراكز البحوث والدراسات.
- الأحزاب والتجمعات السياسية والفكرية.
- المؤسسات الاقتصادية (ودورها يتميز من خلال المساندة والتمويل اللذان يمكن أن توفرهما لفاعليات الحوار الحضارى العالمى).
* المعيار التخصصى:
وهنا نتطرق إلى الأفراد والشخصيات ذات الإسهام الخاص فى عملية الحوار الحضارى العالمى.. وتتسع دائرة هؤلاء الأفراد بحسب تخصصهم لتشمل الفئات المؤثرة.. مثل رجال الدين، والمفكرين. والسياسيين، ورجال الثقافة والفنون، ورجال الاقتصاد والمال، والعلماء والباحثون، ورجال الإعلام والصحافة، والقيادات والرموز المجتمعية وقيادات الحركات النسائية.. الخ.
محتوى الحوار و مضامينه
من العسير أن نلم فى عجالة بمحتوى الحوار الحضارى العالمى ومضامينه... وذلك لاتساع هذه القضية، وتعدد أبعادها، وتجدد أطروحاتها مع تجدد الحقائق المتغيرة فى العالم، إلا أنه يمكن الإشارة إلى عدد من الملامح الرئيسية لمادة هذا الحوار والتى من أهمها:
. احترام جميع الأطراف لخصوصية الحضارات المختلفة:
يجب أن يركز الحوار الحضارى على إشاعة قيم احترام الرصيد الحضارى لمختلف الأمم.. إيمانا بأن فى التنوع مصدر قوة.. و بالتالى يصبح لزاما أن نبحث فى إيجاد الأساليب التى تمكن من مراعاة الخصوصية الحضارية لكل من الشعوب والأمم من خلال الإطار الحضارى العالمى المشترك الذى نسعى إليه.
. إبراز العناصر المشتركة بين الحضارات السائدة فى العالم:
وهنا يحاول الحوار الحضارى أن يعالج بعض الآثار التى خلفتها الصراعات القديمة.. فطالما عم الجهل بالمفاهيم، والقيم الحضارية المشتركة بين مختلف الأمم.. وتم التركيز فى حالات كثيرة على مواطن الاختلاف والتباين بأسلوب غير موضوعى يدفع إلى تغذية عوامل الصدام والصراع والهيمنة والسيطرة والاستعلاء.
. التكامل بين مكامن القوة فى الأنماط الحضارية المختلفة:
وهذه نقطة البداية، ومحور عملية الحوار ذاتها.. لأن نجاح الجهود الساعية إلى إيجاد إطار حضارى عالمى مشترك لن يتم من خلال اجتياح حضارة لغيرها من الحضارات- كما كان يحدث فى مراحل التاريخ الأولى.. ولكن من خلال دعم وتعزيز التوجهات المعاصرة التى تؤمن بالتعايش والتفاعل والاحترام المتبادل بين الحضارات، لذا فإن الحوار الحضارى يجب أن يركز على كيفية تحقيق التكامل بين مكامن القوة فى الأنماط الحضارية السائدة فى العالم الآن.
. البرامج التنفيذية للحوار الحضارى العالمى:
النتيجة والثمرة التى نسعى للحصول عليها من خلال الحوار الحضارى العالمى يجب أن تتمثل فى شكل برامج ومشروعات تنقل هذا الحوار ومضامينه إلى واقع البشر وحياتهم.. ودون ذلك يكون الحوار- فى الحقيقة - غير هادف، ومجرد شئ من الترف الفكرى.. كما يجب فى هذا السياق أن يتم رسم أدوار للعمل الإيجابى لمختلف الأطراف والمؤسسات فى عمليات تنفيذ هذه البرامج والمشروعات وفى دعمها.
من هذا كله نجد أن المنهج الإسلامى يؤصل الدعوة إلى الحوار الحضارى واعتماد مبدأ التواصل الإنسانى والتعايش، والتفاعل بين الحضارات المختلفة من أجل استمرار عملية النهوض الحضارى للبشر جميعا، بالاعتماد على العطاء الإيجابى للّثقافات المختلفة.
. متطلبات إسلامية للحوار:
تساعد مجموعة من العوامل والمتطلبات على توفير الشروط اللازمة لإنجاح حوار الحضارات كما تؤثر إيجابا على تقدمه فى المسار الصحيح وبالفاعلية المرجوة.
وفيما يلى بعض أبرز تلك المتطلبات...
1 تأهيل الخطاب الفكرى لمواجهة تحديات الحوار:
إذا كانت هناك مقتضيات ودواع عديدة تدفع إلى ضرورة تجديد مفردات خطابنا الفكرى ولا مجال للتعرض لها فى هذا السياق، إلا أن الحوار مع الآخر يأتى ليكون سببا إضافيا ضمن دواعى هذا التجديد... وذلك لأن هذا الحوار سوف يشهد تركيزا مرجعيا بالغا على الخطاب الدينى كخطاب ثقافى ، و حضارى متكامل، مطالب باستدعاء وتقديم القيم والمفاهيم والرؤى والأطروحات الإسلامية لتحرير موضوع الحوار ومناقشاته ومداولاته ومجالاته المتوقعة، وهو ما يقتضى ويتطلب ضرورة العمل على تأهيل خطابنا الفكرى لمواجهة تحديات هذا الحوار.
وإذا جاز لنا أن نشير بإيجاز لبعض العناصر التى ينبغى أن تضبط وتوجه مسار عملية التأهيل، فإننا نرى التركيز فيما يتصل بالحوار الحضارى على التوجهات التالية:
(أ) الانطلاق من الخصوصية الحضارية :
تصدر نقطة الانطلاق فى الحوار مع الأخر من الخصوصية الحضارية التى تتميز بها أمتنا وهى خصوصية تستند إلى واقع لا سبيل إلى إنكاره.- واقع التعدد الحضارى فى الجماعة الإنسانية المعاصرة التى تعرف وجود تشكيلات حضارية مختلفة ومتنوعة، ولكل واحد منها خصوصياته وسماته ومكوناته الذاتية.
وهذا الاختلاف فى الخصائص الحضارية من أمة إلى أمه تقتضى بالضرورة تعدد طرق ومشاريع النهوض ، والتقدم لان كل طريق منها يجسد المعطيات الخاصة بالأمة ومكوناتها القيمية ، والتراثية، والاجتماعية والثقافية، كما يلبى طموحاتها و تطلعاتها نحو النهوض الحضارى، ومن ثم فإننا نرى خطأ المقولة التى تقول بأن للتطور الإنسانى طريقا واحدا يجب الأخذ به، وأن الحضارة المعاصرة حضارة كونية يتعين تعميم وفرض معاييرها ومبادئها على الجميع..
إن علينا- على طاولة الحوار- أن نكرس مبدأ الحق فى الاختلاف الحضارى- وفى أن يكون لنا مشروعنا النهضوى الحضارى المستقل فى مضامينه ومناهجه ووسائله وذلك فى مواجهة من ينكرون هذا الحق ويشككون فى قدرة و إمكانيات هذا الاختيار المستقل.. على أن ذلك يفرض علينا فى المقابل تكثيف الجهود والمحاولات الإبداعية التى تعمل على إبراز الخصوصية الإسلامية، واستجلاء عناصرها المميزة والكشف عما يمكن أن تضيفه للمسيرة الإنسانية المعاصرة من قيم ومبادئ ومفاهيم تترجم التواصل والتفاعل بين الحضارات الذى تدعو إليه.
(ب) الانفتاح على الحضارات الأخرى:
إن الاعتزاز بالهوية والخصوصية الحضارية لا يعنى إهمال الحضارات الأخرى أو الانغلاق فى مواجهتها وادعاء التميز عليها، ورفض نتاجها الإنسانى، فمثل هذا الموقف الإنسانى السلبى لا ينسجم مع مقتضيات الحوار ومتطلباته، وهو يصدر عن فهم غير موضوعى للتاريخ الحضارى الذى هو فى مجمله ثمرة الجهد الهائل والمتراكم للمسيرة الإنسانية على مدار التاريخ.
لقد كان جوهر العلاقة بين الحضارات على ما شابها من مظاهر الصراع والحروب هو التفاعلى والأخذ والعطاء.. وعلى هذا النحو كانت حضارتنا الإسلامية حضارة عالمية وإنسانية ، وكانت الثقافة العربية الإسلامية ثقافة متفتحة قابلة لاستيعاب كل أنواع الثقافات التى احتكت بها.
إننا ندرك على ساحة الحوار أنه لا تعارض إطلاقا لدينا بين الالتزام بالثوابت الدينية والمحافظة على الهوية وبين الأخذ والاقتباس من الحضارات الأخرى، والإفادة من التراث والنتاج المشترك للحضارات الإنسانية على مدى العصور المختلفة، ومنها النتاج الحضارى المعاصر، بما يساعدنا على حل مشاكلنا، ويخدم قضية تطورنا وتقدمنا.. ذلك أن الأخذ، والتفاعل والتواصل يتم بميزان من قيمنا الأصيلة وبمراعاة خصوصيات هويتنا.. وهو تفاعل وتواصل تفرضه وبدرجة غير مسبوقة الحقائق الجديدة فى عالم اليوم الذى أضحى أكثر اتصالا وترابطا وتشابكا فى مصالحه وقضاياه...
(ج) إبراز الطابع الإنسانى للفكر الإنسانى:
إن خطابنا الإسلامى المعاصر فى حاجة إلى التركيز على إبراز الخاصية الإنسانية فى الإسلام على وجه ملائم بعد أن ظل طرحنا لهذا البعد الإنسانى الهام ضعيفا ومحدودا، ومما يضاعف من هذه الحاجة ما نلاحظه على الصعيد الإسلامى من ضآلة الوعى بالقيم والمنطلقات الإنسانية المستمدة من شريعتنا والتى يتعين أن تشكل نسيجا للعلاقات والروابط الداخلية والخارجية للمسلمين لصالح تنامى بعض التيارات والاتجاهات ، والنزاعات، والسلوكيات الخاطئة التى لا تعطى لهذا البعد اعتباره الواجب، وتقدم عليه بعض الممارسات والرؤى الخاطئة فضلا عما نلاحظه من تنامى الهجمات الإعلامية المعادية والمغرضة فى بعض الدول، والتى تعمل على تشويه صورة الإسلام وتصويره للرأى العام الدولى على أنه دعوة للعنف والتطرف، وردة حضارية ومعاد للتطور ولقيم الحريات وحقوق الإنسان.
ومن هنا تبدو الأهمية البالغة لإعادة الكشف عن الحقائق الأصلية الخاصة بمنظومة القيم الإنسانية المتكاملة التى تميز الإسلام، والتركيز على إبراز تلّك القيم الإنسانية الأساسية والجوهرية فى خطابنا الحوارى وتبدو تلك الأهمية على أكثر من مستوى منها:
- ترسيخ الوعى بأبعاد الطابع الإنسانى للثقافة الإسلامية فى العقل والوجدان الإسلامى المعاصر، وما يرتبه ذلك من أثار إيجابية ثقافيا، وتربويا، وسلوكيا.
- إظهار حقيقة الوجه الحضارى و الإنسانى للإسلام على الصعيد العالمى.
- دعم الاتجاه الذى يرعا الانفتاح على نتاج الفكر والحضارة المعاصرة، والإفادة من التعايش الحضارى واتخاذ الحوار كأساس للعلاقات بين الحضارات المختلفة.
- التأكيد على قدرة الإسلام على وضع مبادئ وقيم أخلاقية روحية ذات أهمية عالمية توجه وترشد تطور المجتمع الإنسانى المعاصر، خاصة مع تزايد الإحساس العالمى بأزمة الإنسانية فى ظل التطورات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية المتسارعة حيث يؤكد هذا الطابع الإنسانى قدرة الإسلام على أن يوفر لحركة الحياة كلها قيما حافظة للعلاقات الإنسانية قادرة على زرع بذور الاستقرار، والأمن، والسكينة فى عالم يشوبه القلق وفقدان الشعور بالأمن وضحالة وتصدع المشاعر، والعلاقات الإنسانية.
(د) التأكيد على المضمون الحضارى للخطاب:
ينبغى أن يكون خطابنا فى مواجهة الآخرين خطابا حضاريا متكاملا وفى مقدمة الخصائص التى تكسب الخطاب طابعا حضاريا اتسامه بالواقعية.. أى ارتباط الخطاب بحركة الواقع الراهن إسلاميا ودوليا، وبإشكالياته وقضاياه وتحدياته.. وعلى ذلك يبدو ضروريا أن يمتلك الخطاب القدرة على قراءة وفهم هذا الواقع والتعرف على عناصره ومكوناته وقواه المختلفة وتطوراته ومتغيراته، وتحولاته المتسارعة بأشكالها وصورها، وميادينها المختلفة، والتى تفرض أوضاعا محلية وإقليمية ودولية جديدة تتطلب الحاجة إلى إدراكها والتعامل معها، وأن يعمل على صياغة تصورات ومفاهيم وحلول ملائمة تستجيب لمتطلبات واحتياجات النهوض بهذا الواقع، انطلاقا من المبادئ والقيم والمقاصد الإسلامية.
ولأن الكثير من القضايا والإشكاليات المطروحة على ساحة الحوار سوف تتعلق أصلا بأزمات التخلف والنمو، والتراجع والتقدم الحضارى، وهى قضايا اكتسبت فى المرحلة الراهنة أهمية بالغة على صعيد العلاقات الدولية، فإن المحتوى والمضمون التنموى لخطابنا الفكرى يبرز ليكون محورا جوهريا ورئيسيا من محاور الطرح الحضارى.. غير أن المهمة الكبيرة التى تنتظرنا فى هذا الصدد هى تأكيد حيوية خطابنا وقدرته على الإبداع الحضارى وذلك بالكشف عن القيم والمفاهيم، والتصورات التنموية فى المنظور الإسلامى والتعريف بما يمكن أن يقدمه الفكر الإسلامى من معالجات، وصيغ متميزة فى المجالات التنموية المختلفة.
ويبرز أخيرا المستقبل- مستقبل الأمة ومستقبل البشرية- بصوره و آفاقه ومتطلباته ليكون واحدا من أبرز القضايا المطروحة على الحوار وذلك بالنظر إلى الأولوية التى يحتلها على سلم اهتمامات الأطراف الأخرى.. وهى أولوية ينبغى أن نلتفت إلى خطورتها البالغة.. وعلينا هنا أن نقبل على هذا التدافع الحضارى، وألا يتخلف خطابنا نحو التوجه إلى المستقبل واستشراقه ورسم وصياغة مساراته، وأن ينشغل بتحدياته المتوقعة حتى تأتى تطوراته ومتغيراته- وهى قادمة لا مفر منها- واعية ومقصودة.
2 ارتباط الحوار الإسلامى بالحوار مع الآخر:
يبدو أمراً هاما وضروريا لنجاح حوارنا مع الآخر أن يسبق هذا الأخير ويواكبه، ويرتبط به حوار إسلامى- إسلامى، يتصل بمجمل قضايا وإشكاليات الشأن الإسلامى، وتكون قضية الحوار الحضارى بالضرورة فى مقدمة هذه القضايا.. إن الأمر يتصل أساسا بأهمية العمل فى البيئة الإسلامية على توفير ثقافة حوارية بدرجة كافية، وأرضية صحيحة وسليمة ومتينة تستند إليها، وتنطلق منها وتنمو فيها علاقتنا الحوارية، وتولد وتتأصل فيها التقاليد، والأعراف الحوارية كمنهج وأداة ووسيلة لازدهار وإثراء حياتنا الفكرية والثقافية.
والحوار هو الأداة الحضارية لتبادل الآراء ومناقشة الأفكار والتعرف على المواقف المتباينة، والبحث عن فهم أو أرضية مشتركة.. ولقد أصبح الحوار فى عالم اليوم لغة ضرورية لدوام التعايش وتحقيق المصالح بين الشعوب والأمم و إدارة الاختلاف والتنوع بين التجمعات والقوة والتيارات المختلفة، وبينما الحال كذلك من حولنا فإننا نأسف لتراجع هذا المنهج الحضارى من قائمة العلاقات بين التيارات والمدارس الفكرية على الساحة الإسلامية لحساب شيوع منهج خاطئ يشكل واحدا من أبرز الإشكاليات الإنسانية الراهنة.
انه منهج المواجهة والصراع والخصومة، والعداء. والتجريح المستمر، وتبادل الاتهامات منهج الضيق بالمخالفين، والمسارعة إلى اتهامهم فى أفكارهم و نياتهم و أخذهم بالشبهة وسوء الظن، أو النيل من دينهم وتقواهم... ولقد كان من أثار شيوعه سبل الاتصال والحوار.. وفقدان القدرة- فى حالات كثيرة- على الحوا ر و المناقشة، والمناظرة والشورى والتقويم، والنقد الذاتى ، وبروز ضروب من التخويف والإرهاب والتعصب الفكرى دفعت بعض العلماء والمفكرين إلى العزوف عن الجهر بآرائهم والمشاركة فى إثراء وإنماء الفكر ودفع مسيرته نحرص تجاوز حالة الأزمة التى يمر بها.
علينا إذن أن نعمل على الأخذ بمبدأ الحوار، وان نجعله مبدأ المبادئ الذى يحكم العلاقات بين الأطراف، والمدارس والتيارات الإسلامية، وأن نحرص على تأكيده وإشاعته فى العقل السليم، وأن نضع له أكثر الصياغات سعة ومرونة، والأسس، والضوابط التى تضمن تحوله من ممارسة عشوائية إلى ممارسة منظمة وواعية، لأنه بالحوار والثبات عليه نفتح الطريق رحبا فسيحا لبناء علاقات صحية قوامها التآلف والتفاهم والمشاركة البناءة من أجل صياغة المفاهيم والتصورات الملائمة التى تساعدنا على حل الكثير من مشاكلنا، ومواجهة الكم المتراكم من قضايانا.
3 آلية إسلامية للحوار:
ولن تتحقق لنا القدرة على التعامل الصحيح والسليم مع الحوار بندية وكفاءة مرجوة إلا بامتلاك الأداة الآلية التى يناط بها إدارة كل ما يتعلق بالحوار الحضارى فى مراحله المختلفة، والإحاطة بكل ما يتصل به على نحو علمى منظم.
إن مثل هذه الآلية تصبح ضرورية لدواعى عديدة، ومنها مواجهة القنوات المتاحة للحوار اليوم وهى فى معظمها لدى الأطراف الأخرى (مثل لجنة الحوار بالفاتيكان، ومجلس الكنائس العالمى، ومجلس كنائس الشرق الأوسط). فضلا عن أن التخطيط للحوار ووضع البرامج الخاصة به والإعداد له، وتحديد أهدافه وأولوياته وأسلوبه، وكيفية التعامل معه، وتعبئة افضل الطاقات الفكرية المتاحة لخدمته، وإنجاز البحوث والدراسات المتصلة به.. وطرح وتحليل الرؤى المختلفة... والتوصل إلى صياغات مشتركة.. وتوجيه وتقويم و مراجعة نتائجه، وتحديد مساراته المستقبلية، والتنسيق بين البلدان الإسلامية بخصوصه.. وغير ذلك من الأمور التى تتصل به هى فى حاجة إلى عمل مؤسسى يضطلع بمهامها، ويضع كل الجهود ضمن منظومة موحدة توفر المقومات والإمكانات والشروط اللازمة لإنجازه على وجه ملائم وتضمن له الاستمرارية والفاعلية معا.
وليكن هذا البناء المؤسسى المقترح والخاص بشئون الحوار فى شكل مكتب دائم أو سكرتارية دائمة لدى منظمة المؤتمر الإسلامى.
4 المبادرة إلى الحوار و التصدى بصراحة لإشكالياته:
إذا كانت هناك الكثير من الأسباب الحقيقية التى دفعت إلى عدم اهتمامنا بالحوار مع الآخرين ، والى تزايد الشكوك والمخاوف لدى البعض من حقيقة الدعوة إلى هذا الحوار وجدواه، وهى أسباب تقف وراءها الموروثات التاريخية للصراع التاريخى الطويل بين الإسلام والمسيحية، ومرحلة الاستعمار الغربى للبلدان الإسلامية وأخيرا محاولات الهيمنة الحضارية الراهنة، والتى اكتسبت صورا عديدة.. إلا أنه فى المقابل، ولأسباب أشرنا إلى بعضها علينا أن نعى بأن حاجاتنا للحوار لا تقل عن حاجة الآخرين له إن لم تزد.
ولهذا فواجبنا أن نبادر به وأن نكون أكثر حرصا عليه.- وأن نمتلك الجرأة على الإقدام عليه والإصرار على مواصلة مسيرته مهما كانت العقبات، ويغدو الاعتراف بإشكاليات ، ومصاعب الحوار وتعقيداته فى هذا السياق أمرا ضروريا لنجاحه.. ولن نتمكن من مواجهة وتقليص تلك العقبات والإشكاليات وتجاوز أزمة الثقة وحالة سوء الفهم المتبادل- إلا بالمكاشفة الشجاعة ، والوضوح والصراحة التى تستند إلى اعتبارات موضوعية تعبر عن نفسها بلغة خطاب عقلانى بعيدا عن الطابع الدعائى ، والانفعال العاطفى.
5 لجنة تحضيرية إسلامية للأعداد للحوار:
وحتى يمكن أن نتوفر على أفضل الشروط والظروف الموضوعية المواتية لإجراء الحوار فإننا نقترح على مؤتمركم الموقر تشكيل لجنة تحضيرية للإعداد للحوار من نخبة متميزة من علماء، و مفكرى العالم العربى و الإسلامى- تضع أمامها مجموعة من الأسئلة الجوهرية التى تتصل بالحوار، وتعمل على الإجابة عليها لتكون تمهيدا ومقدمة ضرورية تهيئ وتوجه للحوار المقترح... إن اللجنة التحضيرية مطالبة بالإجابة عن تساؤلات من مثل.. تحديد المقصود بالحوار ومبرراته، وأهدافه وغاياته وأطرافه.. والمشاركين فيه.. وأصوله ووسائله، ومستوياته التنظيرية أى إطاره !الفلسفى.. والقضايا التى يجب أن تحظى بالاهتمام قبل غيرها.. والمفاهيم الأساسية التى تشكل تصورنا الثقافى و الحضارى إلى غير ذلك من العناصر والقواعد الرئيسية التى تتصل به...
إننا نأمل فى صياغة علاقات حضارية متكافئة بين الإسلام والحضارات الأخرى، تكون اكثر عدلا و إنصافا وتوازنا وتقوم على إرساء دعائم الاحترام المتبادل، والتفاهم والتعاون الإيجابى والعمل المشترك لخير الإنسانية كلها، وتلك مسئولية على درجة بالغة من الأهمية علينا أن نضعها فى مقدمة همومنا و انشغالاتنا.
المصدر: المؤتمرات / المؤتمر الثامن : الإسلام ومستقبل الحوار الحضارى يوليو 1996م / المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، وزارة الأوقاف، جمهورية مصر العربية